خصلة ذميمة، وفِعلة كريهة، من كبائر الذنوب، وعظائم الحوب، أمارة على النفاق، وطريق إلى الفجور، منكر عظيم جامع للشرور، لا خلق معه، ولا أمانة لصاحبه، يُذهب المروءة، ويورث الخسّة والدناءة، فساد للدين والدنيا، إنه الكذب وما أدراك ما الكذب، قال الله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، فأعظم الكذب وأفجره ما كان على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله وعلى دينه كالذي يفتي بلا علم.
وجاء في الحديث الصحيح المتواتر أنّ رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار».
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وقال محذرًا خطورة الكذب ومآله: «إياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
بالكذب يمحق الله البركة، جاء في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنّ رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال: حتى يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما».
ومن حدَّث بكل ما سمعه فقد ولج إلى باب من الكذب، جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع».
وعند وقوع الفتن يتميّز الخبيث من الطيب، ويظهر الصادق من الكاذب {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
كم ضيّع الكذب من حقوق، وكم أبطل من واجبات، وكم انتهكت به المحرمات، وقطعت بسبه الصلات، وأثيرت به العداوات.
الكاذب ضعيف الديانة، ذاهب الأمانة، نادم يوم القيامة.
ولذا كان الكذب لا يصلح لا في الجد ولا في الهزل، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس أو غرض آخر فإنه عاص لله ورسوله، وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي قال: «إنّ الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له ويل له ثم ويل له»، وقد قال ابن مسعود: إنّ الكذب لا يصلح في جد ولا هزل... وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك).
قال ابن القيم رحمه الله: (إنّ أول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، ثم يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد).
قال الله: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}.
ولقد تنوّعت وسائل الكذب في هذا الزمان، وتعدّدت طرقه، وكثر السائرون في دروبه، وإن من أمثلته في هذا الوقت التمثيل الذي حوى على منكرات كثيرة: من إثارة للشهوات أو الشبهات، ومن كذب، واستخفاف ببعض تعاليم الإسلام، وأكل للمال بالباطل، ووصل للشعر، واختلاط بالأجنبيات، مع تكشُّف وسفور وتبرُّج، بل وصل الحال ببعضهم أن مثّل دور الكفار والتشبُّه بهم في لبسهم وعبادتهم، بل وصل الأمر بآخر أن مثّل دور الشيطان ووسوسته، فمتى كان التشبُّه بالكفار أو الشيطان جائزًا.
وإنّ من العجب- وما أكثرَ العجائب في هذا الزمان- أن يفتي بعضهم بجواز تمثيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، بل وصل الأمر إلى إباحة تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جهل بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقام صحابته، أفيجوز الكذب على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرج أحدهم ويعاملَه الممثلون على أنه رسول الله!!، أو يمثل أحدهم سيرة عمر رضي الله عنه ويعامله من حوله أنه عمر!! أفبعد هذا كذب ألا تربت أيديهم.
وأما استدلالهم بأنّ بعض الملائكة تمثل بصورة رجل فلا دلالة لهم فيه من أوجه كثيرة منها:
أولًا: أنّ ظهور الملائكة في بعض الأحاديث على تلك الهيئة إنما هو بأمر الله وإذنه، والله لم يأمرنا بما أمرهم، ولم يأذن لنا في الاقتداء بهم في ذلك.
ثانيًا: أنّ تصوّر الملائكة بتلك الكيفية تصوّر حقيقي لا كذب فيه وليس هو تمثيل، بخلاف الممثل فهو كاذب في تمثيله بأنه فلان ولو علم المشاهد أنه ليس فلانًا.
ثالثًا: أنّ عالم الغيب ومنه عالم الملائكة لا تقاس أحكامه بأحكام البشر، فإنّ لذلك العالم أحكامه، ولنا أحكامنا.
رابعًا: لو جاز جعل التمثيل من وسائل الدعوة والتعليم لشرعها رسول الله وحث عليها، ولقام الصحابة رضي الله عنهم بذلك، لاسيما مع قيام المقتضي في زمانهم وزوال المانع فلمّا لم يُفعل دلّ على أن فعله والتقرّب به محدث وضلال.
ولو لم يأت في المنع من التمثيل إلاّ كراهة الرسول صلى الله عليه وسلم له لكفى بها زاجرًا لأهل الإسلام، فكيف يكره رسولنا صلى الله عليه وسلم شيئًا ويصرح ببغضه وعدم محبته ثم يقدم بعضنا على إباحته وبل القيام به مما يدل على عدم التوفيق، قال صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال ابن الأثير رحمه الله: (أي أني فعلت مثل فعله)، قال النووي رحمه الله: (ومن المحاكاة أن يمشي متعارجًا أو مطأطأ أو غير ذلك من الهيئات)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنسانًا» نكرة في سياق النفي فتعم كل أنواع المحاكاة سواء كانت للتعليم أو المزاح أو الجد.
والممثل للصحابة رضي الله عنهم والمبيح له قد تخوّضا فيهم بغير حق، نسأل الله العافية، قال الشافعي رحمه الله: (لا تخوضن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خصمك النبي صلى الله عليه وسلم غدًا).
الكاتب: د. محمد بن فهد بن الفريح.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.